قبل الخوض في تحليل المشهد الراهن من وجهة نظري، يتطلب الأمر توضيح بعض المفاهيم الأساسية، حتى تتضح لك الصورة التي أود رسمها.
♘ فالاستراتيجية، في أبسط تعريفاتها، هي ذلك المزيج بين العلم والفن الذي يرسم الأهداف الكبرى ويوجه النشاطات الأساسية لأي كيان؛ سواء كان دولة، حركة مقاومة، أو حتى مؤسسة اقتصادية (وهو ما يقع ضمن دائرة تخصصي).
♘الاستراتيجية تتعلق بتحديد الأهداف بعيدة المدى واختيار أفضل السبل لتحقيقها. وفي خضم الصراعات والحروب، تنظر الاستراتيجية إلى “الصورة الشاملة”، مُحددةً كيفية توجيه الموارد لتحقيق الغايات الكبرى، كالتفوق العسكري أو إعادة التوازن السياسي.
ضمن هذا الإطار الواسع، تنبثق مفاهيم🔻
♘التكتيك والعمليات، وهي الأدوات التنفيذية التي تُستخدم لتحقيق الاستراتيجيات. إذا شبهنا الاستراتيجية بالخريطة، فإن التكتيك هو الطريق
والعمليات هي الخطوات المتتالية التي تسير عليها لتحقيق الهدف المنشود.
الفرق الجوهري بين الاستراتيجية وما دونها يكمن في البعد الزمني: حيث تركز الاستراتيجية على الصورة الكبيرة والطويلة الأمد، في حين تركز التكتيكات على التحركات قصيرة الأمد والقرارات اليومية في ساحة المعركة.
♘في عالم الصراع و الحرب ، يبقى النجاح مرهونا بمدى التوازن بين الاستراتيجية والتكتيك. فاستراتيجية بلا تنفيذ تكتيكي محكم تفقد فعاليتها، بينما تكون التكتيكات دون إطار استراتيجي واضح مجرد تحركات بلا وجهة. يوضح صن تزو قبل ألاف السنين بأن الاستراتيجية دون تكتيكات هي الطريق الأبطأ نحو النصر، أما التكتيكات دون استراتيجية فهي ضوضاء قبل الهزيمة
♘لذا، فإن الفهم العميق للعلاقة بين الاستراتيجية والتكتيك هو حجر الزاوية في أي تحليل منطقي لأي صراع، سواء كان عسكريًا، سياسيًا، أو اقتصاديًا.
إذا نظرنا إلى الرد الأخير لحزب الله في سياق التصعيد الإسرائيلي، نجد أن فهمه يتطلب وضعه ضمن الإطار الأوسع للصراع العربي الإسرائيلي. في هذا السياق، تتبنى الاستراتيجية نهجا متكاملاً يهدف إلى تحقيق أهداف طويلة الأمد، مثل إضعاف القوة الإسرائيلية تدريجيا وإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية المحيطة. بما يخدم الهدف النهائي لهذه الاستراتيجية هو “زوال إسرائيل”، وهو الهدف الكبير الذي تتشكل حوله رؤى المقاومة.
هذه الاستراتيجية تختلف بشكل جذري عن التكتيكات قصيرة الأمد التي تركز على تحقيق مكاسب آنية أو تجنب مخاطر محددة. فالاستراتيجية تتعلق بكيفية إدارة الموارد المحدودة لتحقيق نتائج مستدامة على المدى الطويل، وهي بذلك تتجاوز الحسابات الضيقة إلى أفق أرحب يتطلب صبرًا ومهارة في توجيه الدفة بما يحقق الأهداف الكبرى.
تلعب إيران دور حاسم في إدارة سلم التصعيد ضمن محور المقاومة، يجب النظر في استراتيجيتها الدقيقة التي تقوم على الموازنة بين دعم حلفائها وتجنب الانزلاق إلى صراع شامل قد يُلحق بالمنطقة دمار واسع. حيث تعتمد هذه الاستراتيجية على أدوات مُعقدة تدمج بين “التحالفات المرنة” و “إدارة التصعيد متعدد المستويات”، مما يُعزز من قدرة إيران على التحكم في مسار الأحداث دون الانجرار إلى مواجهات مكلفة وغير محسوبة
♘ المحاور الرئيسية لاستراتيجية إيران
التنوع في أدوات التصعيد
إيران لا تقتصر في نهجها على التدخل المباشر، بل تمتلك شبكة واسعة من الحلفاء والقدرات، تبدأ من الدعم اللوجستي والاستخباراتي ولا تنتهي عند العمليات العسكرية المباشرة. هذه القدرة على التنوع تمنحها المرونة في الرد على التهديدات دون أن تضطر للانخراط بشكل كامل في أي تصعيد، وهو ما يُذكّرنا بمقولة
“التنوع في الأدوات يمنح القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة.”
إدارة الجبهات المتعددة
تعتمد إيران على توسيع ساحات المواجهة بشكل لا مركزي، حيث تفتح جبهات متعددة في لبنان، غزة، العراق، واليمن، ما يُصعّب على إسرائيل وحلفائها تركيز جهودهم على جبهة واحدة. هذه الاستراتيجية تُذكّر بمفهوم “تشتيت العدو” الذي أشار إليه كلاوزفيتز، حيث تتوزع القوة على جبهات مختلفة مما يُضعف قدرة العدو على توجيه ضربة حاسمة.
التدرج في التصعيد
المبدأ الأساسي هنا هو تجنب الانزلاق إلى صراع شامل إلا في حال تهيأت الظروف المواتية. تعتمد إيران على تصعيد تدريجي يتيح لها اختبار ردود الفعل وتعديل استراتيجيتها بناءً على المعطيات الجديدة. هذا النهج يمنحها القدرة على استنزاف إسرائيل على المدى الطويل دون أن تتحمل هي تكلفة عالية، مما يُعيدنا إلى حكمة صن تزو في فن الحرب: “الزمن هو الحليف الأهم في المعركة.”
♘الإسناد الاستراتيجي: العمود الفقري لاستدامة الصراع
في ضوء هذه المعطيات، يتحول مفهوم “الإسناد” في محور المقاومة من مجرد دعم عسكري إلى عملية إدارة شاملة تشمل توجيه الموارد واستثمارها بحذر. تدرك المقاومة أن أي تصعيد غير مدروس قد يُواجه برد فعل قاسٍ من إسرائيل و أمريكا، قد يتضمن حتى استخدام أسلحة نووية أو تفعيل الدعم الأمريكي المباشر. لذلك، يتجاوز الإسناد الاستراتيجي حدود العمليات العسكرية ليشمل إدارة ذكية للموارد بما يضمن استمرارية المحور وقدرته على الصمود في صراع طويل الأمد.
هذا الإسناد الاستراتيجي المرن يُشبه إلى حد كبير ما أسماه ابن خلدون في المقدمة بـ“التدبير الحصيف”، حيث يتطلب الصراع المستدام إدارة دقيقة لموارد القوة والضعف، مع الحفاظ على القدرة على المناورة في ظل الظروف المتغيرة.
في النهاية، تُظهر استراتيجية إيران كيف يمكن لإدارة ذكية ومُتعددة الأبعاد أن تفرض معادلات جديدة في ساحة الصراع، تُبقي فيها الخيارات مفتوحة وتمنع العدو من السيطرة الكاملة على زمام المبادرة، مما يتيح لمحور المقاومة الحفاظ على قوته التفاوضية وتغيير موازين القوى بشكل تدريجي وثابت.
مفهوم الإسناد التدريجي كأداة استراتيجية
يُعد الإسناد التدريجي محورا مركزيا في استراتيجيات المقاومة، خاصة في إطار حزب الله وإيران ومحور المقاومة بوجه عام. يتمحور هذا النهج حول تقديم الدعم بشكل محدود ومتدرج يتناسب مع مراحل الصراع المختلفة، وذلك بغرض الحفاظ على التوازن دون الانجرار إلى تصعيد شامل. ولا يقتصر هذا الإسناد على العمليات العسكرية فقط، بل يشمل أيضًا إدارة متقنة للموارد والتحالفات وتوقيت التدخلات، بما يحقق الأهداف دون استنزاف الإمكانيات.
كيف يحافظ الإسناد التدريجي على التوازن في سلم التصعيد؟
كما أشرت سابقًا، يُشير “سلم التصعيد” إلى سلسلة من المراحل تبدأ بتوترات محدودة وقد تنتهي بصدامات شاملة. في هذا السياق، يهدف الإسناد التدريجي إلى إبقاء إسرائيل محصورة ضمن نطاق محدد من ردود الفعل، مما يحافظ على التوازن دون أن يُسمح لها بفرض قواعد اشتباك جديدة أو السيطرة الكاملة على مسار الصراع.
يتضمن هذا النهج تقديم دعم تكتيكي يتناسب مع درجة التصعيد القائمة، مع تفادي الردود المفرطة التي قد تؤدي إلى حرب شاملة. مثل هذا التدرج يمنح المقاومة مرونة أكبر في التعامل مع المواقف المختلفة، حيث يمكنها تركيز جهودها على نقاط ضعف معينة تُعيق قدرات العدو دون الوصول إلى مرحلة التصعيد القصوى التي تسعى إسرائيل إلى جرّها إليها. بعبارة أخرى، هذه الاستراتيجية تهدف إلى إبقاء الصراع ضمن حدود يمكن التحكم فيها، مما يضمن عدم تجاوز سقف معين من التصعيد.
كبح هيمنة إسرائيل على التصعيد عبر الإسناد التدريجي
إسرائيل تعتمد بشكل كبير على فرضية الهيمنة على التصعيد، حيث تحاول دائما الحفاظ على المبادرة بين يديها. تهدف هذه الاستراتيجية إلى إبقاء اليد العليا في تحديد متى وأين وكيف تتصاعد الأمور. وفي مواجهة هذا النهج، يأتي دور الإسناد التدريجي كأداة مضادة؛ إذ يمنح حزب الله ومحور المقاومة القدرة على التصعيد ببطء وبطريقة مدروسة، مما يُجبر إسرائيل على التراجع وإعادة تقييم خياراتها.
عندما تدرك إسرائيل أن الردود ستكون متوازنة ومدروسة بعناية، تصبح أقل قدرة على التحرك بحرية. وبدلا من فرض هيمنتها الكاملة على سلم التصعيد، تجد نفسها مضطرة لمراجعة حساباتها بشكل مستمر في مواجهة إسناد تدريجي وغير مباشر قد يغير قواعد الاشتباك دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة. على سبيل المثال، تُعتبر الضربات المحدودة وعمليات الاستنزاف الدقيقة أكثر فاعلية من التصعيد الشامل؛ لأنها تبقي إسرائيل في حالة ترقب دائم وتُعطل قدرتها على تصعيد الموقف بالطريقة التي تفضلها.
في هذا السياق، يتضح كيف أن الإسناد التدريجي ليس مجرد تكتيك مؤقت، بل هو استراتيجية متكاملة تهدف إلى تحقيق التوازن في الصراع، حيث يمكن التحكم في وتيرته وتوجيهه نحو أهداف محددة، دون السماح للعدو بالهيمنة الكاملة على مجريات الأمور.
رد إيران في ضوء الإسناد التدريجي
♘تلعب إيران دورا محوريا في إدارة هذه المعادلة عبر تكتيك معقد ومبني على فهم عميق لآليات الصراع والتحالفات. إذ تدير علاقاتها مع حلفائها بطريقة تتيح لها توجيه ردود مدروسة في توقيتات حساسة دون التورط المباشر في التصعيد. تعتمد إيران في هذه الاستراتيجية على مبدأ “التصعيد المحسوب”، وهو مبدأ يشبه إلى حد كبير ما أشار إليه مكيافيلي في الأمير حين قال: “الفعل يجب أن يكون محسوبا بما يكفل تحقيق النتيجة المطلوبة بأقل تكلفة”. هنا، يتم دعم حركات المقاومة، سواء في لبنان أو فلسطين، عبر خطوات مدروسة تساهم في إضعاف العدو تدريجيا دون الانجرار إلى مواجهة شاملة.
♘هذا النهج المتدرج يسمح لمحور المقاومة بتنفيذ عمليات منسقة في جبهات متعددة مثل لبنان واليمن، مما يُرهق إسرائيل ويشتتها دون السماح لها بفرض سيطرتها على إيقاع الصراع. في هذا السياق، تظهر مرونة الاستراتيجية الإيرانية التي تتكيف مع تطورات المشهد، حيث يتم تقديم الدعم وفقًا للمرحلة الراهنة من التصعيد، مع تفادي فتح الباب أمام إسرائيل لاستغلال الموقف وفرض هيمنتها.
الأثر الاستراتيجي للإسناد التدريجي على إسرائيل
يفرض الإسناد التدريجي على إسرائيل تحديا معقدا يتمثل في التعامل مع صراع متعدد المستويات. من جهة، تُنهك العمليات المحدودة والموزعة على جبهات مختلفة قدرات إسرائيل، حيث تجد نفسها مجبرة على استنزاف مواردها دون تحقيق نصر حاسم. ومن جهة أخرى، يتم حرمانها من القدرة على التحكم الكامل في سلم التصعيد، مما يقيد خياراتها الاستراتيجية.
هذه الديناميكية تخلق حالة من “الإجهاد الاستراتيجي” لدى إسرائيل، حيث تجد نفسها مضطرة لتوجيه جهود كبيرة نحو مواجهات غير متكافئة من حيث التوقيت والحجم، مما يقلل من فعاليتها على المدى الطويل. وفي المقابل، يمنح هذا النهج المقاومة القدرة على التحكم في وتيرة التصعيد وإطالة أمد المواجهة بما يتماشى مع أهدافها الاستراتيجية دون خسائر فادحة.
تحقيق التوازن في سلم التصعيد
♘في نهاية المطاف، يتجلى الدور المحوري للإسناد التدريجي في استراتيجية حزب الله ومحور المقاومة بشكل عام. عبر التصعيد المدروس والتحكم في توقيت الدعم وردود الأفعال، يتمكن محور المقاومة من كبح جماح إسرائيل ومنعها من السيطرة على إيقاع الصراع. هذا النهج لا يحافظ فقط على التوازن في سلم التصعيد، بل يحول أيضا دون الانزلاق إلى حرب شاملة قد تكون كارثية للجميع.
إدارة التصعيد بشكل تدريجي تتجاوز كونها مجرد عملية عسكرية؛ بل هي فن سياسي واستراتيجي يعكس فهماً عميقا للواقع الجيوسياسي وللتحديات المحيطة. في هذا السياق، تصبح المقاومة قادرة على الحفاظ على قوتها واستنزاف العدو بشكل مستدام، مما يضمن بقاء الصراع في إطار يمكن التحكم فيه، حتى تنضج الظروف لصالح تغيير جذري في موازين القوى. بهذا المعنى، يتجلى الإسناد التدريجي كأداة استراتيجية بامتياز، تجمع بين الحذر والمكر، معززةً قدرة المقاومة على الصمود والتكيف مع متغيرات المشهد الدولي.
الخاتمة: نحو توازن استراتيجي جديد
الصراع بين المقاومة وإسرائيل ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل هو معركة طويلة الأمد للسيطرة على سلم التصعيد وإدارة توازن القوى. في ظل التحديات الراهنة، تحاول المقاومة أن تحافظ على توازن دقيق بين التصعيد المحسوب وإدارة الموارد بذكاء، بهدف إطالة أمد الصراع حتى تتبدل الظروف الدولية والإقليمية لصالحها.
♘ السؤال الأهم يظل: هل تستطيع المقاومة الاستمرار في هذا النهج دون أن تُجبر على مواجهة شاملة؟ الجواب يعتمد على قدرتها على إدارة التصعيد بمرونة، والحفاظ على زخم الدعم الإقليمي والدولي، مع تجنب الانزلاق إلى مواجهات غير محسوبة قد تؤدي إلى تدمير الجبهات المحورية، مثل غزة أو لبنان.
هذه الاستراتيجية المتوازنة تتطلب تكتيكات ذكية وتحالفات مرنة، بحيث تبقى المقاومة قادرة على الصمود وإحداث تآكل تدريجي في قدرة العدو على فرض إرادته، مع الاستعداد لاستغلال أي تغيير في موازين القوى الدولية لصالحها.
في خطابه الأخير كما كان في خطابه الأول بعد الطوفان، وضع الأمين العام لحزب الله النقاط على الحروف، محددا استراتيجية تركز على تجنيب المدنيين اللبنانيين ويلات الموت، مع رسم حدود دقيقة للتصعيد، والمناورة بمرونة ضمن تلك الحدود. يدرك الحزب جيدا حجم الانتقادات والسخرية والاتهامات بالتخلي التي قد تلاحقه بسبب هذا النهج. لكن الأولوية بالنسبة له هي حماية لبنان وشعبه وتجنب الانزلاق إلى حرب مدمرة، وبعد ذلك تأتي غزة وأي قضايا أخرى.
سواء اتفقنا مع هذا التوجه أو اختلفنا (وأنا أختلف)، يبقى بعضنا غير قادر على استيعاب الأبعاد الحقيقية لهذا النهج، ويتصورون أن علاقات الأصدقاء أو الحلفاء تُبنى فقط على الشعارات والمواقف العاطفية. غير أن الواقع السياسي، وكما علمتنا التجارب، ليس ساحة للمجاملات أو العشم؛ بل هو حقل قاسٍ تُديره حقائق ملموسة على الأرض، وارتباطات إقليمية ودولية، وأهداف استراتيجية تتغير تكتيكاتها وفقا لتطورات المرحلة.
وهنا أود توجيه نصيحة صريحة: يجب أن يدرك حزب الله، وكذلك محبوه، أن خسارة غزة لا تعني فقدان بيدق في لعبة شطرنج، بل هي خسارة للوحة بأكملها. غزة هي الملك، والوزير، والجندي، وهي عمود النضال الإسلامي الذي يجمع السُنة والشيعة في مواجهة المشروع الإسرائيلي.
بغض النظر عن الأهداف الإقليمية و أي استراتيجية تتبعها في الحرب، فإنها ستنهار تماما إذا سقطت غزة. حينها، لن يُنظر إلى حزب الله أو غيره إلا بعيون طائفية بحتة!
قمت بكتابة هذا التحليل عشية رد حزب الله على اغتيال فؤاد شكر (السيد محسن)