القوة المجهولة التي تحكم كل شيء
في عالم لا تحكمه فقط الجيوش أو السياسة، إنما يتسلل فيه النفوذ كظلال خفية تلتف حول كل قرار، يظهر دائما هدف واحد: السيطرة الكاملة. إسرائيل، كيانٌ وُلِدَ من رحم الصراع، تبحث دائماً عن هيمنة تامة، ساعيةً لتحويل جغرافيتها الصغيرة إلى إمبراطورية كبرى.
ولكن السؤال يبقى:
❓ما هو أقصى طموحٍ لها؟ وما هو السيناريو الذي يجعلها تشعر بانتصار لا رجعة فيه؟
في الظاهر، تبدو الإجابة بسيطة: ضم غزة والضفة الغربية، وخلق “إسرائيل الكبرى” التي تخلو من أي فلسطيني يعترض طريقها.
هذه هي النهاية التي تنشدها إسرائيل؛ أرض واسعة، سكان أقل، سيطرة كاملة. لكن الواقع يختلف. إسرائيل، مثل أي قوة تسعى إلى توسيع نفوذها، تواجه مشكلة لا يمكنها حلها بسهولة:
🔻المقاومة.
هنا، يجب أن نتذكر قانونا قديما: “كلما توسعت الإمبراطورية، زادت نقاط ضعفها.” في سبيل تحقيق هذا الطموح، تحتاج إسرائيل إلى تحطيم القوى التي تحيط بها، كما يحطم المطرقة الزجاج الهش.
الأردن و مصر نظامان هشّان غارقان في الفساد، يشكلان العقبات التي تعيق هذا الطموح. ورغم أن سقوطهما قد يبدو حتميا، إلا أن العواقب قد تكون كارثية.
إسرائيل تدرك جيدا قانونا آخر من قوانين القوة: “لا تدخل معركة إذا لم تكن مستعدا لتحمل العواقب.” ولهذا، رغم أنها تمتلك القوة العسكرية، فهي تدرك أن استنزافها في حرب مباشرة طويلة مع حزب الله 🇱🇧 في الجنوب قد يكون نهاية لقدرتها على التوسع. لقد جربت مرة تلو الأخرى أن تفرغ قطاع غزة من السكان ، لكنها لم تنجح حتى الىن بعد عام من الحرب من إفراغ شمال غزة. إنها عالقة في مصيدة المقاومة، مصيدة تجعلها تتردد في كل خطوة تقدم عليها.
الصراع الذي لا نهاية له
الصراع هنا لا يتعلق فقط بالأرض أو السيطرة المباشرة؛ إنما هو صراع على المستقبل، على من سيسيطر على السردية. إسرائيل تدرك أن حربا شاملة ضد المقاومة، سواء كانت في غزة أو في لبنان، لن تأتي بالنصر السريع. على العكس، كل خطوة نحو الحرب تستنزفها أكثر. وهنا يكمن النقص:
كلما تعمقت إسرائيل في محاولات إضعاف خصومها، كلما زادت مقاومتهم شراسة.
وهذا يقودنا إلى القانون الأكبر: “الهروب من العدو قد يكون أحيانا أقوى سلاح من مواجهته.” إسرائيل قد تضطر إلى تجنب الدخول في حرب شاملة مع إيران، لأنها تدرك أن المواجهة المباشرة تتطلب قوة أعظم منها – الولايات المتحدة. الحرب الحقيقية ليست حرب الدبابات أو الطائرات، بل هي حرب النفوذ والقدرة على التحكم في القوى العظمى. وهنا يدخل العامل الأمريكي.
حرب أمريكا في الوحل الإيراني: الفخ الذي ينتظر
إسرائيل بحاجة إلى القوة الأمريكية لتغيير قواعد اللعبة، لتدمير البرنامج النووي الإيراني، ولإغراق المنطقة في فوضى تمنحها فرصة لإعادة تشكيل الخارطة وفقا لرغباتها. لكن الدخول في حرب شاملة مع إيران لن يكون مجرد غارة خاطفة على منشآت نووية، إنما سيتحول سريعا إلى مستنقع مدمر. إيران ليست كيانا يسهل هزيمته. قوتها الصاروخية الهائلة، تحالفاتها الإقليمية، واستراتيجيتها التي تعتمد على استنزاف خصومها ستجعل الحرب معها ويلات لا تنتهي.
أي ضربة عسكرية ضد إيران ستفتح النار على الخليج بأكمله. البنية التحتية للطاقة، شرايين الاقتصاد العالمي، ستصبح أهدافا سهلة للصواريخ الإيرانية. ستُغرق الأسواق في فوضى عارمة، أسعار النفط ستصل إلى مستويات جنونية، وستجد الولايات المتحدة نفسها غارقة في مستنقع شرق أوسطي عميق لا نهاية له.
وفي الوقت الذي تتورط فيه أمريكا بحرب طويلة ومكلفة في الشرق الأوسط، ستتفكك قدرتها على مواجهة أعدائها الاستراتيجيين الحقيقيين.
الصين، العدو الأكبر لأمريكا، ستكون الرابح الأكبر. فمن خلال توريط الولايات المتحدة في هذا الوحل، ستجد الصين الفرصة الذهبية لبسط سيطرتها على تايوان. وفي نفس الوقت، ستنهي روسيا حربها في أوكرانيا لصالحها بشكل كامل، دون أي تدخل غربي جدي.
مأساة القوة المفرطة
الحرب ليست دائما دليلا على القوة، بل قد تكون علامة على الإفراط في الثقة، وفي بعض الأحيان، تُظهر أعمق نقاط الضعف. الغرق في صراع مع إيران سيستنزف الموارد العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة بشكل لا يمكن تجاوزه. إدارة حرب في ثلاث جبهات رئيسية – الشرق الأوسط، أوروبا الشرقية، وآسيا – هو أمر يفوق قدرات حتى أكبر قوة عظمى. فخوض حرب شاملة مع إيران سيستوجب نشر قوات ضخمة في منطقة الخليج، لحماية البنية التحتية الحيوية للطاقة، وضمان استمرار تدفق النفط. في نفس الوقت، ستكون القوات الأمريكية معرضة لخطر الهجمات الصاروخية والطائرات بدون طيار من جانب إيران و حلفائها.
لكن بينما تركّز الولايات المتحدة جهدها في هذه الحرب الطويلة، ستتحمل تكلفة اقتصادية هائلة. السوق العالمي سيشهد ارتفاعا جنونيا في أسعار النفط، وسينكمش الاقتصاد الأمريكي نتيجة لهذا التوتر. دول الخليج الغنية، التي تعتمد على استقرار أسواق الطاقة، ستجد نفسها في حالة من الفوضى، فيما تتعرض القواعد الأمريكية المنتشرة في المنطقة لهجمات متزايدة. بمرور الوقت، ستدرك أمريكا أن هذه الحرب ليست مجرد صراع إقليمي، بل استنزاف يمتد لعقود.
العواقب الاستراتيجية: تشتت الجبهات
والأهم من ذلك، أن هذه الحرب ستجعل الولايات المتحدة تفقد تركيزها على الجبهة الأكثر أهمية:
شر آسيا.
الصين تنتظر بصبر الفرصة المناسبة، بينما يزداد انشغال أمريكا بالشرق الأوسط. السيطرة على تايوان، التي تشكل جوهرة استراتيجية في بحر الصين الجنوبي، ستكون الهدف الأسمى للصين. الانشغال الأمريكي في الشرق الأوسط سيوفر للصين الوقت والمساحة لتنفيذ خططها بهدوء وثبات. بمجرد أن تصبح أمريكا غارقة في وحل الصراع الإيراني، ستتحرك الصين بثقة نحو تايوان، مستفيدة من ضعف الردع الأمريكي.
أما الجبهة الثالثة، في أوروبا الشرقية، فستكون تحت ضغط من روسيا. روسيا، التي تعلم أن انشغال الولايات المتحدة بحرب إيران سيخفف من دعمها لأوكرانيا وحلفائها في الناتو، ستستغل هذه الفرصة لتعزيز سيطرتها على أوكرانيا وربما التوسع أكثر في مناطق النفوذ السوفييتية السابقة.
التفكك الأمريكي: نهاية الهيمنة العالمية
هذا السيناريو يمثل سقوط الهيمنة الأمريكية على الساحة العالمية. ففي ظل إدارة حرب متعددة الجبهات، ستتفتت مواردها وقدراتها الدفاعية. القوات الأمريكية المشتتة بين حماية الخليج، والدفاع عن تايوان، ودعم أوكرانيا، لن تكون قادرة على تحقيق النصر الحاسم في أي جبهة. وهذا يُظهر التناقض الأكبر:
🔻أمريكا، رغم قوتها العسكرية الهائلة، ليست قادرة على خوض حرب عالمية شاملة بمفردها.
النتيجة:
فراغ القوى وظهور البدائل
عندما تُسحب الولايات المتحدة نحو هذا التشتت الاستراتيجي، ستملأ الصين وروسيا هذا الفراغ بسرعة. الصين ستثبت هيمنتها على آسيا، وروسيا ستعيد ترتيب أوروبا الشرقية لصالحها.
في النهاية، ستكون الحرب مع إيران مجرد فصل من فصول الانهيار الأمريكي، حيث يتم استنزاف الموارد والقوى في صراعات غير مجدية، تاركةً الولايات المتحدة غارقة في حروب لا يمكن كسبها، بينما يحقق منافسوها الانتصار بلا مواجهة مباشرة.
ثم ماذا عن إسرائيل؟ هل ستخرج منتصرة بعد كل ذلك؟
بعد الانهيار في ميزان القوى في الشرق الأوسط، الإجابة هي:
لا.
فحزب الله، الذي أثبت مرارا وتكرارا قدرته على إدارة حرب استنزاف طويلة الأمد، سيكون مستعدا لجر إسرائيل إلى نفس المعركة. دائرة الصراع ستتسع لتشمل سوريا وربما تؤدي إلى انهيار النظام الأردني، وهو احتمال مرعب لإسرائيل، لأن هذه جبهات لن تستطيع قفلها أو السيطرة عليها بسهولة. إنها ليست مجرد حرب ضد فصيل أو مجموعة؛ إنها كرة نار ستلتهم كل شيء، وستتجاوز الحدود، لتبتلع المنطقة برمتها في فوضى لا نهاية لها.
اليوم، يظهر نتنياهو كأنه سكران بنشوة ضرباته في الشرق الأوسط، مُخدَّر بنصر عسكري وهمي. لكن هذه النشوة لا تعكس حقيقة الأمور. إنها نشوة خمر القوة، وليست القوة ذاتها. فكل ما حققه حتى الآن هو قتل الأطفال والنساء، وضرب قادة مسنين تجاوزوا الستين من أعمارهم.
في المقابل، يبقى مئات الآلاف من المقاتلين مستعدين للقتال، وخطوط الإمداد ما زالت قائمة وممتدة، والمحيط الجبان – الذي يخاف من نصرة فلسطين بقدر ما يخاف من مساعدة إسرائيل في العلن – لا يزال يراقب.
وهم النصر وخطر الاستنزاف
إسرائيل قد تعتقد أنها تنتصر مؤقتا، لكن الحقيقة أن هذه الانتصارات تكتيكية وليست استراتيجية. لقد أغفل قادتها القانون الأساسي للصراع طويل الأمد:
حزب الله وسوريا واللاعبون الإقليميون الآخرون لا يلعبون لعبة قصيرة الأمد. على العكس، هذه الأطراف تنتظر بصبر، مستعدة لحرب طويلة ستُنهك إسرائيل. في نهاية المطاف، لن تكون إسرائيل قادرة على تحمل عبء القتال على عدة جبهات في وقت واحد، وسرعان ما ستجد نفسها محاصرة في مستنقع استنزاف غير محدود.
المأساة هنا ليست فقط في الحرب نفسها، إنما في الطموح الجامح الذي يجعل إسرائيل تؤمن بأنها تستطيع هزيمة كل أعدائها بقوة السلاح وحدها. بينما يواصل نتنياهو مساره العدواني، يتجاهل حقيقة أن الحرب ليست مجرد دمار مادي، إنما تآكل تدريجي لقوة الخصم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهنا تكمن الخطورة الكبرى: في الوقت الذي تشعر فيه إسرائيل بنشوة الانتصار، قد تكون في الواقع تتآكل ببطء، عاجزة عن رؤية الانهيار الذي ينتظرها.
المحيط: الشلل الاستراتيجي في الجوار
إلى جانب إسرائيل، يقف المحيط العربي الجبان ليس فقط في نصرة فلسطين، بل أيضا في نصرة إسرائيل (المطبعين) نفسها. هذا المحيط الجبان هو في الحقيقة عامل استنزاف إضافي. فهو يخاف من اتخاذ أي موقف صريح أو دعم واضح، مما يزيد من هشاشة الموقف الإقليمي. هذه القوى الإقليمية قد تكون محايدة في الظاهر، لكنها في الواقع تدفع المنطقة نحو مزيد من الفوضى والتوترات التي قد تخرج عن السيطرة.
في نهاية المطاف، القوة الحقيقية ليست في الضربات العسكرية التي يحتفل بها القادة على شاشات التلفاز، إنما في القدرة على الحفاظ على استقرار طويل الأمد. وإسرائيل، على الرغم من كل قوتها، قد تجد نفسها غير قادرة على قفل دائرة الاستنزاف التي فتحتها بأيديها.
في الختام، إسرائيل تلعب لعبة خطيرة، لعبة تتقنها القوى التي تسعى للسيطرة على مصائر الآخرين.
إنها تدفع الولايات المتحدة ببطء وثبات نحو حرب لا تخدم سوى طموحاتها الذاتية، حرب قد تبدو في ظاهرها معركة استراتيجية، لكن الحقيقة أكثر قتامة. الولايات المتحدة لا تجد لها في هذا الصراع لا ناقة و لا جمل أو أي مكسب حقيقي، ربما سوى “حليب الإبل”، مكافأة هزيلة لا تكفي لسد عطش إمبراطورية تسعى للحفاظ على هيمنتها.
لكن في هذا الدفع نحو الهاوية، تخطئ إسرائيل حساباتها. فهي تأمل أن تجر أمريكا إلى معركة تضمن لها “ألفيتها السعيدة”، إلا أن القانون الذي لا يتغير هو أن الجشع الأعمى لا يثمر إلا المرارة. في نهاية المطاف، لن تجد إسرائيل ولا الولايات المتحدة من هذا الصراع سوى طعم المرارة ذاته: “بول الإبل”، الرمز الأكبر لخسارة الفائدة والتورط في حروب عبثية، وتلك الحروب لا تُروى بالتمني ولا تُكسب بالقوة وحدها.
تمامًا كما علمنا التاريخ مرارا، هناك فرق بين القوة والسيطرة، بين النصر الوهمي والحقيقة الصارخة التي تكشف ضعف كل من يطارد سراب الهيمنة.