فيتنام و غزة، التشابه الذي لا يتماثل إلا في فعل المحرقة و الصمود الأسطوري!

في تاريخ الصراعات الحديثة، تتكرر مقارنات كثيرة بين تجارب الشعوب في مواجهة الاحتلال، ومن بين أكثر هذه المقارنات شيوعًا الآن هي بين حرب فيتنام والحرب المستمرة في غزة. وعلى الرغم من أن كلا الشعبين واجه عدوا ذا تفوق عسكري هائل، فإن الفوارق بين الحالتين تظل شاسعة من حيث الإمكانيات العسكرية، الظروف الجغرافية، والدعم الدولي.

فالحقيقة لا يمكن مقارنة غزة بفيتنام، فالفارق بين الحالتين شاسع من حيث القدرات العسكرية والإمكانيات اللوجستية وحتى الدعم الدولي. فيتنام، في ذروة مقاومتها ضد القوات الأمريكية خلال الستينيات، ضمت نحو مليون مقاتل، مدعومين بترسانة عسكرية قوية تشمل دبابات، مدفعية ثقيلة، وصواريخ مضادة للطائرات. كان الجيش الفيتنامي الشمالي مدعومًا بأسلحة متطورة نسبيًا لتلك الفترة، حيث وفرت لهم كل من الاتحاد السوفييتي والصين إمدادات متواصلة من المعدات العسكرية.

من أبرز التسليحات التي امتلكتها فيتنام الشمالية

1. صواريخ أرض-جو SA-2 “سام”: هذه الصواريخ قدمها الاتحاد السوفييتي، وكانت تشكل تهديدًا كبيرًا للطائرات الأمريكية، حيث تمكنت من إسقاط عدد من الطائرات الحربية الأمريكية، بما في ذلك طائرات B-52 الاستراتيجية.

2. المدفعية الثقيلة: اعتمد الفيتناميون على المدافع من طراز M-46 وD-74 السوفييتية، التي استخدمت في ضرب مواقع القوات الأمريكية بشكل فعال في المناطق الجبلية والوعرة.

3. الدبابات T-54 وT-55: على الرغم من أن استخدام الدبابات كان محدودًا بسبب طبيعة التضاريس، إلا أن هذه الدبابات السوفييتية كانت جزءًا من الترسانة الفيتنامية واستُخدمت في بعض المعارك الكبرى مثل هجوم عيد الفصح عام 1972.

4. الأنفاق والكمائن المتقدمة: ربما كان أكثر جوانب التسليح الفيتنامي ابتكارًا هو شبكة الأنفاق المعقدة التي استخدموها لنقل الجنود والعتاد والتخفي من القصف الأمريكي المكثف. هذه الأنفاق مكنتهم من التحرك بسرية وإعداد الكمائن التي أرهقت القوات الأمريكية. هنا يحدث التشابه المضلل مع الواقع الغزي. و ربما هي نقطة التفوق الوحيدة في غزة بعد صلابة المقاتل!

أيضاً كانت الغابات الكثيفة في فيتنام ملاذًا آمنًا للمقاتلين، حيث جعلت من المستحيل على القوات الأمريكية استخدام تفوقها الجوي بشكل فعال. استخدم الفيتناميون أيضًا الألغام والفخاخ البدائية بكفاءة كبيرة، مما أضاف مزيدًا من الضغط النفسي والعسكري على القوات الأمريكية.

في غزة، فالقصة مختلفة تماما

هذه الأرض الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 360 كيلومترا مربعا، تحوي على الأكثر 40 ألف مقاتل، منهم ربما 20 ألف مقاتل فعال. هؤلاء الرجال يقاتلون بأسلحة بسيطة مقارنةً بترسانة الاحتلال الإسرائيلي. لا دبابات متطورة، ولا طائرات حربية حديثة، بل يعتمدون بشكل رئيسي على صواريخ محلية الصنع مثل “الياسين” و”الرجوم”، التي تصل إلى أهدافها وقد لا تصل، في مواجهة جيش يفوقهم عددًا وعتادًا بآلاف المرات.

الجيش الإسرائيلي هاجم غزة بنصف مليون جندي، مسلحين بأحدث تقنيات الحرب، منها طائرات F-35 الشبحية ودبابات ميركافا، وأنظمة دفاعية متقدمة مثل القبة الحديدية التي تمثل شبكة دفاعية تغطي سماء إسرائيل.

في فيتنام، كانت المقاومة تتمتع بدعم دولي لا ينقطع، وكانت خطوط الإمداد مفتوحة عبر الحدود مع الصين ولاوس. الدعم اللوجستي المستمر من هذه الدول كان يسمح بنقل الأسلحة والمعدات بانتظام، ما ساهم في الحفاظ على زخم العمليات القتالية. أما في غزة، فهي محاصرة من جميع الجهات؛ لا سماء تحميها ولا أرض تتسع لإمداداتها.

جيرانها ربما أكثر قسوة من عدوها؛ من جهة مصر بقيادة السيسي التي أغلقت حدودها بشكل محكم، ومن جهة أخرى التحالفات الإقليمية والدولية التي تكمم الأفواه وتغلق الأبواب أمام أي دعم حقيقي.

المدنيين، وقود الحرب!

فيتنام كانت تختلف جذريًا عن غزة عندما يتعلق الأمر بحماية المدنيين وقدرتهم على الاختباء في وجه العدو. الطبيعة الجغرافية والبيئية لفيتنام كانت تحالفًا طبيعيًا مع المقاومة. الغابات الكثيفة الممتدة على مد البصر وفرت ستارًا خفيًا حمى ليس فقط المقاتلين، بل أيضًا المدنيين. تلك الغابات، التي كانت تزدان بأشجارها الضخمة وسراديبها المعقدة، كانت:

ملاذًا للجميع.

ملاذًا من قصف الطائرات، وعيون الجواسيس، وحتى من قسوة الواقع نفسه. كان المدنيون في فيتنام قادرين على اللجوء إلى أعماق الغابة، حيث تمتزج الطبيعة بالحرب، وتمتزج الحياة بالمقاومة. لم تقتصر وسائل الحماية في فيتنام على الغابات فقط، بل لعبت شبكة الأنفاق المتشعبة دورًا رئيسيًا في الحفاظ على أرواح الكثيرين. هذه الأنفاق، التي كانت تُحفر بصبر ومهارة، امتدت كأوردة خفية تحت الأرض، تربط بين القرى والمناطق المحاصرة.

لم تكن تلك الأنفاق مجرد ممرات، بل كانت مدنًا تحت الأرض، تحتوي على مستشفيات، غرف قيادة، ومخابئ للمدنيين والمقاتلين على حد سواء. كانت تلك الشبكة المعقدة حصنًا منيعًا ضد القصف الجوي المكثف الذي شنتّه القوات الأمريكية، وأداة فعالة لتخفيف آثار الحرب على المدنيين.

مع ذلك قتلت الولايات المتحدة أكثر من مليون فيتنامي اعزل

في غزة، فالصورة أشد قسوة وأبعد عن الرحمة

غزة، تلك البقعة الضيقة المحاصرة، لا تحتوي على غابات تختبئ فيها الأرواح، ولا أنفاق متشعبة تحمي المدنيين من القصف الذي لا يتوقف. في هذه الأرض الصغيرة، حيث يتلاصق الحجر بالحجر، لا يوجد مكان آمن يلجأ إليه الأطفال والنساء والشيوخ.

السماء مفتوحة على نيران الاحتلال، والأرض محدودة لا تكاد تتسع لهاربين من جحيم القذائف. عندما تبدأ الصواريخ في السقوط، لا يجد المدنيون في غزة سوى بيوتهم الهشة أو خيامهم كملاذ. وبينما كانت الغابات في فيتنام تختزل في طياتها مئات الأسرار، تخفي المدنيين وتحميهم، فإن غزة مكشوفة، وكل شارع فيها، وكل زقاق، مُعرض للقصف في أي لحظة. في فيتنام، كان للمدنيين ملجأ في قلب الطبيعة، أما في غزة، فإن الطبيعة لم تترك لهم سوى البحر من جهة، وجدار الحصار الصهيوعربي من جهة أخرى.

الحماية في غزة أصبحت فعلا جماعيا، حيث تتضافر الجهود البسيطة من الناس في بناء خيام في أماكن مفتوحة، أو في المدارس والمستشفيات التي تحولت هي الأخرى إلى أهداف عسكرية في لحظة. حتى الأنفاق التي حفرتها المقاومة، كانت في معظمها مخصصة لأغراض عسكرية أكثر منها لحماية المدنيين. و حتى لو أرادت المقاومة بناء أنفاق مدنية فستصبح تلك أهداف للعدو و هي بذاتها ستكون مقتلة للناس بحجم أكبر.

فطبيعة جغرافيا غزة لا يمكن ان تحمي أهلها تحت الأرض فكما أسلفنا لا غابة و لا جبل في غزة. هي أرض مكشوفة!

التناقض الصارخ بين حالتي فيتنام وغزة

هذا التناقض الصارخ بين حالتي فيتنام وغزة يُظهر الفجوة الكبيرة في قدرة السكان على الاختباء وحماية أنفسهم في وجه العدوان. في فيتنام، كانت الطبيعة حليفًا، أما في غزة، فالسماء المفتوحة على القصف، والأرض المحاصرة بالجدران، تُغلّق كل نافذة أمل أمام المدنيين، تاركةً إياهم في مواجهة قدرهم بلا حماية تُذكر.

ما حدث في غزة وما يحدث من مقاومة و أهلها هو معجزة بحد ذاته، لكن المعجزات وحدها لا تكفي لصنع النصر في معركة غير متكافئة. أيضاً فيتنام الشمالية كانت تمتلك عقيدة قتالية موحدة، قائمة على التزام أيديولوجي تجاه تحرير البلاد من الاحتلال، بينما في فلسطين نجد أراء متعددة وأهداف متباينة، تعكس اختلافات سياسية وفكرية بين الفصائل المقاومة و فصائل التسليم و التفريط.

هذه التباينات تضيف عبئًا إضافيًا في معركة تتطلب تنسيقا وتوحيدا.

لا يمكن الاعتماد على المعجزات في زمن يحكمه الحديد والنار.

في الزمن الذي كان فيه موسى يرفع عصاه ليشق البحر، كان هناك تفوق إلهي يدعم قضية واضحة. ولكن في زمننا الحالي، تسقط المعجزات أمام موازين القوى العالمية التي لا تعترف إلا بالقوة المادية والتفوق التكنولوجي.

بينما اليوم نجد أنفسنا في مواجهة قدر مشابه ولكن بأدوات مختلفة. في زمن يتطلب أدوات جديدة للتفوق وليس انتظار معجزة لن تأتي.

غزة لا يمكن أن تنتصر أو تصمد وحدها!

وبينما تواصل غزة صمودها الأسطوري، تظل الحقيقة أن النصر في معركة غير متكافئة يتطلب تحولات جذرية في ميزان القوى، أو على الأقل تغييرًا في قواعد اللعبة، وهذا ما يجعل القضية أكثر تعقيدًا في عالم تحكمه المصالح والقوة، وليس القيم والعدالة.

و ربما الأهم أن هذا يمكن أن يتم أيضا عبر من يمتلك قوة في شمال فلسطين المحتلة تفوق قوة فيتنام و أصدقاء بخطوط إمداد أقوى عقدياً و تسليحيا!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top
Share via
Copy link