وأنا أكتب، تتصارع في داخلي مشاعر متناقضة بين الرغبة في تحليل الواقع بموضوعية وبين الخضوع لجذوة الغضب التي تشتعل في نفسي كفلسطيني. كيف أكون موضوعيا و أنا أكتب و العدو يصب على رأسي زيت مغلي؟
أي عقلٍ سيبقي في مكانه! هذا الحياد المزعوم الذي يطلب مني أكاديميا في مثل هذه الحال يصبح مجرد غطاء للهروب من مواجهة الحقيقة، وهو في ذاته شكل من أشكال الانحياز، إذ يكاد يكون جريمة في حق إنسانيتي. فكيف يمكن للمرء أن يتعامل ببرود حين يرى يومياً آلة الحرب تعصف به و بأهله بأبناء شعبه، بينما يُطلب منه أن ينظر إلى الأمور بعين مجردة من الأحاسيس.
حينها ستصبح الموضوعية قناع لإخفاء جبن الانحياز إلى القوة؟
الواقع الذي نعيشه اليوم لا يمكن أن يُختزل في بُعد آني أو أزمة محدودة، بل هو امتداد لتاريخ طويل من الاستعمار والاستبداد والتواطؤ الدولي. إننا لا نتحدث هنا عن مجرد صراع بين قوتين غير متكافئتين. إنه هو جحيم مستمر، أُطلق بمباركة القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة، لضمان استمرار هيمنتها في المنطقة وحماية مشروع استيطاني بُني على أشلاء الشعوب ودماء الأبرياء. لكن، وسط هذا السواد الذي يغلف حياتنا، ينبغي أن نرى حقيقة العدو ذاته الذي يواجه تحديات غير مسبوقة. إنه على عكس ما يحاول تسويقه، يمر بمرحلة قد تكون من الأسوأ منذ تأسيسه.
فتصدعاته الداخلية، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، تزداد تعمقاً مع كل أزمة، وتفضح هشاشته التي لم يعد من الممكن إخفاؤها خلف دعايات القوة والهيمنة. اليوم، وفي خضم حالة التشاؤم (أو “التشائل” كما سماه إميل حبيبي)، يجب أن نحذر من الوقوع في فخ رؤية الأمور من خلال أعين أعدائنا، الذين يهدفون إلى الحفاظ على مصالحهم، ولو على حساب الحقيقة. هؤلاء “المحللون” الذين يزعمون أنهم يحذرون من الانهيار القادم ينطلقون من بنية خوفهم من انهيار مشروعهم الاستيطاني الذي باتت معالم سقوطه واضحة للعيان، وإن كانوا يحاولون إخفاءها وراء واجهة من التفاؤل الكاذب و الكلمات المنمقة.
مشهد اليوم، بظلمه واستبداده، يعيدنا إلى مقولة ابن خلدون الخالدة: “الظلم مؤذن بخراب العمران”. هذا ما نراه الآن أمامنا؛ بنية قائمة على الظلم بدأت في الانهيار تحت ثقل تراكمات عقود من العدوان والقمع، فتلك الأسس التي بنيت على الاستبداد والبطش لا يمكنها الصمود إلى الأبد. وما كان يُروَّجُ له ككيان لا يقهر، بات يتهاوى تدريجياً تحت وطأة تصدعاته الداخلية وصراعاته التي لا تهدأ. وسط هذه الصورة القاتمة،
نأتي إلى السؤال: هل يمكن حقا أن أكون “موضوعيا” في تحليلي أو رؤيتي للواقع، بينما أجلس على أطلال وطن ممزق و عائلة مشتتة بين القبور و الخيام؟ أن أحلل كدويري في أستوديو أو ببرود كأنني أراقب مباراة شطرنج، بينما أعلم أن الطرف الآخر يلعب بكل قذارته الممكنة؟
هنا، تصبح “الموضوعية” أشبه بمحاولة مستحيلة، بل هي أقرب إلى خيانة لمبادئ العدالة ذاتها. فالعدو، مهما أظهر من تماسك ظاهري، يعيش أزمة وجودية عميقة، تتفاقم مع كل فشل في فرض إرادته، ومع كل محاولة لإعادة تدوير أزمة حكمه. فما بين التحليل العقلاني والواقع المتفجر، أجد نفسي مُعلقا بين فهم أعمق لما يجري ورغبة جامحة في الصراخ بوجه الظلم. وكلما حاولت أن ألتزم الحياد في التفكير العقلاني، أدركت أن هذا الحياد ليس سوى شكل من أشكال الاستسلام للطغيان.
فالحق، كما تعلمنا من دروس التاريخ يلعن من يختبئ خلف قناع الموضوعية المزيفة و يذكر بالخير من يواجه الحقيقة بشجاعة، مهما كانت النتائج. لعل أهم ما نتعلمه من تجربتنا القاسية هو أن التغيير نتاج صمود طويل الأمد لا فجائي الظهور، و نتاج مقاومة لا تعرف التراجع، حتى في أحلك الظروف. وفي النهاية، سيذكر التاريخ من قاوموا الظلم، لا من اختاروا الصمت باسم الموضوعية أو الترزق او أي شيء آخر. فهذا الطريق، رغم ما فيه من ألم، هو الطريق الوحيد الذي يقود إلى مستقبل أكثر عدلاً وإنسانية،